الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة مهرجان كان السينمائي: أما بعد، قراءة أولى

نشر في  02 جوان 2018  (18:31)

بقلم الناقد السينمائى الطاهر الشيخاوي

أول ملاحظة لا بد من إبدائها هي أن مستوى أفلام الأقسام الرسمية للدورة 71 لمهرجان كان السينمائي كان أرفع بكثير من مستوى السنة الفارطة.

وللتذكير تتمثل الأقسام الرسمية في "المسابقة الرسمية" و"نظرة ما" و"أفلام خارج المسابقة و"الحصص الخاصة" و"حصص نصف الليل" و"سيني كلاسيك"، طبعا لم يتسن لنا مشاهدتها كلها إذ يقارب عددها المائة (أعني الأفلام المختارة في الأقسام الرسمية فقط دون اعتبار الأقسام الأخرى)، فاقتصرنا على أفلام المسابقة الرسمية التي شاهدناها كلها وأفلام نظرة ما التي شاهدنا جلها وبعض الأفلام المندرجة في أقسام أخرى، أي قرابة الأربعين فيلما، بمعدل أربعة أفلام يوميا، فتعذر علينا متابعة الأقسام الموازية أي قسم "نصف شهر المخرجين" وقسم "أسبوع النقاد" وقسم "آسيد"، ذلك كان اختيارنا والمفارقة التي لا بد أيضا من إبرازها هي أن هذا التحسن في البرمجة واكبه تراجع في المهرجان كحدث ثقافي، فنسبة المشاركين (صحافيين وسينمائيين وحرفيين وهواة) كانت، بشهادة الجميع، أقل من السنة الفارطة، ذلك ما أكده لنا أصحاب المقاهي والمطاعم الذين استفسرناهم في الموضوع.

والأمران (أي تحسن البرمجة من ناحية وتراجع المهرجان من ناحية أخرى) مرتبطان ببعضهما البعض، فلم تحصل السينما الأمريكية هذه السنة إلا على القليل القليل، ما أغضب المهنيين الأمريكان وتسبب ربما في الحملة التي شنتها الصحافة في الولايات المتحدة ضد المهرجان. نعتقد أن هذا الإرباك كان السبب، أو سببا من الأسباب، في تجديد اختيارات أفلام المسابقة الرسمية.

فلم يكن عدد السينمائيين المعروفين بترددهم على المسابقة الرسمية مرتفعا إذا استثنينا إثنين أوثلاثة كالصيني جا زان كو أو الكوري لي شانغ دونغ. وحتى المعروفين منهم لم يساهموا سابقا في المسابقة الرسمية، ثم تجدر الإشارة إلى أن المواضيع ايضا كانت مختلفة فأغلب التيمات كانت ملتزمة اجتماعيا، من هنا جاء في رأينا ارتفاع نسبة الأفلام القادمة من مناطق جغرافية أخرى.

لم تمرّ دورة من دورات مهرجان كان دون أن نقرأ أو نسمع تذمر المخرجين العرب والأفارقة مما يعتبرونه إقصاء وتهميشا، ولم تمر دورة من دورات المهرجان دون أن يؤكد تييري فريمو على أن المقياس الوحيد الذي تعتمده لجان الإقتناء هو قيمة الفيلم في ذاته بقطع النظر على انتمائه الجغرافي والثقافي، وكنا تعرضنا إلى هذا الموضوع مرارا.

إلّا أنه من العسير جدا تصور خلاء ذهن مسييري المهرجان من أي اعتبار جغراسياسي حتى وإن سلمنا أن المبدأ هو فعلا الإعتماد أساسا على القيمة الفنية في ذاتها. والدليل على ذلك أن تييري فريمو لا يفوته التذكير بتنوع البرمجة كلما تعلق الأمر بتقديم عمل قادم من بلاد بعيدة على العموم، نحن نعتقد أن المسألة لها علاقة بمعادلة راسخة في ذهن الكثيرين وهي أن الكيف مرتبط بالكم، فارتفاع عدد الأفلام الغربية راجع إلى مستوى الإنتاج، ولكن الأمر نسبي وان كان لا يخلو من وجاهة، فلا تفسيرا مثلا لغياب الأفلام الهندية إلا إذا اعتبرنا أنه من المستحيل ايجاد خمسة أفلام مقبولة على 1600 كل سنة.

يمكننا الإطناب في هذا الموضوع ولكن ما حدث هذه السنة هو انفتاح ملحوظ على سينمات بلدان لا يسمع عنها الكثير هنا وعلى مخرجين ناشئين نسبيا، فلنأخذ المسابقة الرسمية أولا، قلّ عدد "الزبائن"، كما سبق أن ذكرنا، وارتفعت نسبة الوافدين الجدد.

المثال البارز والذي يهمنا بالدرجة الأولى هو شريط أبو بكر شوقي "يوم الدين". فمن السينما المصرية لا يكاد يعرف مهرجان كان سوى شاهين ويسري نصر الله، وهما فعلا من السينمائيين البارزين والمتميزين، لا شك في ذلك، ولكن من النادر وجود أسماء أخرى في الأقسام الرسمية وإن وجدت فهي لا تبتعد كثيرا عن الأوساط المقربة لهؤلاء.

الجديد في اختيار "يوم الدين" هو أنه عمل أول، وهو أمر غير معهود في المسابقة الرسمية، بل هو الفيلم الأول الوحيد من بين الواحد والعشرين المدرجة في أهم قسم.

قد تجدر الإشارة هنا إلى أن علاقة السينما المصرية بالمهرجانات العالمية تختلف عن غيرها في البلدان العربية الأخرى، فتبعيتها أقل باعتبارها صناعة ذات سوق خاصة بها. يمكن الحديث مطولا عن علاقة كان بالسينما المصرية ولكن المجال غير المجال.

وفي كل الحالات، إدراج "يوم الدين" في المسابقة الرسمية يدل على تغيير في وجهة المهرجان هذه السنة (هل هو تغيير استراتيجي أم ظرفي ؟ هذا سؤال تصعب عنه الإجابة)، فعدد المشاركين الجدد مرتفع نسبيا، يمكن ذكر المخرج الياباني ريوزوكي هوماغوشي (آزاكو 1 و2) والمخرج البولوني باول بافليفوفسكي (الحرب الباردة) والمخرجة الفرنسية إيفا هوسون (بنات الشمس) الذين لم يشاركوا قط سابقا في مهرجان كان والكازخستاني سيرغاي دفورتسيفوي (آيكا) الذي ترجع مشاركته إلى عشر سنوات مضت بشريط "طولبان" في قسم نظرة ما.

كما يمكن أيضا ذكر نادين لبكي (كفر ناحوم) التي تساهم لأول مرة في المسابقة الرسمية، وساهمت مرة واحدة في قسم نظرة ما سنة 2011، علما وأن شريط "سكر بنات" كان حاضرا في مهرجان كان 2007 في قسم نصف شهر المخرجين أي خارج الأقسام الرسمية، أو يان غونزاليس الفرنسي (سكين في القلب) الذي يشارك هو أيضا لأول مرة في المسابقة الرسمية بفيلم طويل مع أنه ليس غريبا عن المهرجان، فجل أفلامه القصيرة عرضت هنا في كان.

ويمكن أن نقول نفس الشيئ عن الروسي كيريل سيريبرينيكوف (الصيف) الذي لم يشارك إلا مرة واحدة سنة 2016 في قسم "نظرة ما".

لم نتطرق إلى الآن إلا إلى المسابقة الرسمية لأنها بدت منذ سنوات كأنها حكرا أو كادت على بعض السينمائيين المشهورين الذين لا يمثل اختيارهم مخاطرة بل يضمن للمهرجان سمعته بأقل التكاليف فبالرغم من أن الأمر يختلف بالنسبة إلى قسم "نظرة ما" الذي يمثل في هندسة اقتناء الأفلام فضاء للأعمال التي تحمل شيئا من الجرأة، فقد شهد هو بدوره نوعا من الفتور منذ سنوات جعل أنظار محبي السينما تتجه نحو الأقسام الموازية وبالتحديد نحو "نصف شهر المخرجين".

وكأن إدارة المهرجان أدركت الخطر أو أخذت في الإعتبار ردود فعل الصحافيين، فصححت المسار وقدمت هذه السنة أعمالا كانت فعلا في مستوى يليق بالقسم. فللذكر لا للحصر، يمكن الإشارة إلى بعضها كـ"الموتى والآخرون" من اخراج البرتغالي جواو صالافيزا والبرازيلية روني نادير ميسورا.

لحظة من أروع لحظات المهرجان، ساعتان من السحر، رحلة استثنائية في الثقافة والفن، في الواقع والخيال وبينهما، غوص في أعماق الفن السابع ومدى قدرته على إدراك أبعاد الذات البشرية لا بالإعتماد على الأساليب المعقدة أو التقنيات المثيرة ولكن بالإعتماد على ما تحمله بساطة التصوير وصدق النظرة من قدرات تعبيرية.

يمكن -ويصحّ- أن نصنف العمل في باب الأنتروبولوجيا البصرية ولكن هذا لا يعني شيئا، فهو يصور فعلا حياة عائلة من طائفة الكراهو شمال الأرجنتين ولكن بطريقة عجيبة.

ترافق الكاميرا أحد سكان القبيلة، عجز عن تجاوز فقدان أبيه. لم يجد بدّا من التخلص من معاناة الفراق، افتقد السكينة ولازمه الأرق، اشتكى لزوجته ولأقاربه ولكن بدون جدوى، يسجل الشريط كل لحظات ضيق انريك اهجاك إلى حد تنظيم حفل الوداع كما تفرضه طقوس القبيلة.

ليس في الفيلم ما يمكن تلخيصه، فهو مواكبة لصيقة ورقيقة كلها دفء ولطف لمشاعر إنسان عادي فقد والده في سياق ثقافي خاص جدا.

أروع ما شاهدت هذه السنة في كان هناك أيضا شريط "حدود" وكنا كتبنا عنه وهو من إمضاء مخرج سويدي من أصول إيرانية، يشتغل على مساءلة التخوم الفاصلة بين الإنسان والحيوان، بين الحيواني لدى الإنسان والإنساني لدى الحيوان، أو شريط "فتاة" للمخرج البلجيكي الفلامنكي لوكاس دهونت الذي ذكرناه أيضا، مساءلة لتخوم أخرى بين الجنسين ونبش في عنف رغبة التحول من جنس إلى آخر، كلها تجارب سينمائية مميزة تختلف عن المعهود اختلافا كبيرا وتتناول مواضيع غير عادية، واقعية وغير واقعية، تكمن أهميتها في امتحان لغة السينما وقدرتها على التعبير.

فيمكن الوقوف على شريط "في بيتي" للمخرج الألماني أولريخ كوهلير، وهو يعتبر من رواد مدرسة برلين، أو مايسمى بـ"الموجة الجديدة الجديدة" الألمانية، قرين المخرجة مارين آدي التي قدمت السنة الفارطة شريطا مميزا بعنوان "توني ادرمان"، كنا تعرضنا إليه في تغطيتنا للدورة السابقة.

يروي "في بيتي" قصة شاب فقد جدّته، هكذا يبدأ الشريط ومن هنا تبدأ الحكاية فتحدث أشياء غريبة. بمجرد خروجه من البيت يكتشف أن البشر اختفوا ولم يبق في الانهج والطرقات إلاّ دراجات نارية وسيارات وشاحنات وآلات النقل الأخرى فارغة لا سائق فيها ولا مسافر، يكتشف أن المغازات والأسواق قد خلت من الباعة والمشترين، بدون سبب، هكذا.

يجد الشاب نفسه وحيدا، يتصرف كما أمكن له ذلك دون اللجوء للآخرين بينما يبقى سياق الفيلم واقعيا، يعود شيئا فشيئا إلى الطبيعة أو تعود الطبيعة شيئا فشيئا إليه إلى أن تأتي، من حيث لا ندري وبدون أي سبب، امرأة تتكلم الأنجليزية، ترافقه.

شريط غريب واقعي وغير واقعي يتنزل بين بين، كأنما يعيد قراءة خرافة روبنسون كروزوي. قد يُقنع وقد لا يقنع ولكنه يجرّب منحى جديدا للتعبير عن إدراك معاصر لواقعنا الحالي تختلط فيه المشاعر الباطنية بالأحاسيس الملموسة بكيفية طريفة فيها جرأة ورغبة في التجديد.

فعديدة هي الأفلام الجريئة من هذا النوع واللافت للنظر هو، كما ذكرنا، أن هذه النزعة في اختيار الجرأة رافقها اهتمام واضح بسياقات ثقافية متنوعة. من هنا جاء وجود كينيا (لأول مرة بشريط "رفيقي" لوانوري كاهيو بعد اثيوبيا سنة 2015) وكازخستان والقبائل النائية في أمريكا اللاتينية وإفريقيا الجنوبية وبالطبع نسبة أكبر من الأفلام العربية (لبنانية، مصرية ومغربية)، لنا لها عودة في مقال لاحق.